ناطحات السحاب
ناطحات السحاب
يعشق الإنسان ناطحات السحاب فمن سمات الإنسان حبه للعلي والارتفاع ، وشيئا فشيئا تطلع إلى الارتفاع في مسكنه ، واعتبروها جزءا من العلو والرفعة كما حدث أن قامت الحضارات القديمة بشكلٍ غريزي بإنشاء مبانٍ شاهقة الارتفاع لتعظيم موتاهم.
وصار جل اهتمام المعماريين هو التمدد الرأسي في الإنشاءات والزحف نحو السماء إلى ما سميت به تلك المباني الشاهقة ناطحات السحاب. والتي قد يصل ارتفاعها إلى آلاف الأقدام فوق سطح الأرض.
وعند إلقاء نظرة على إبداعات الهندسة المعمارية في هذه الإنشاءات الرائعة مع ما تحمله من قضايا معمارية أساسية علاوة على القضايا التصميمية ، يمكننا التكهن بمستقبل ناطحات السحاب.
مقاومة الجاذبية الأرضية:
العقبة الرئيسية التي تواجه عملية الارتفاع في علو البناء هي مقاومة الجاذبية الأرضية.
لو تأملنا بناء الأهرامات, حيث يتوجب توافر مواد مدعمة أكثر في الأسفل, وذلك لدعم قسم المواد المركبة في المنطقة العلوية. وفي كل مرّة نضيف فيها طبقة فأن مجمل القوة الواقعة على كل نقطة في الأسفل تزيد الضغط عليها, وإذا ما استمررنا في زيادة قاعدة الهرم سيصبح ذلك غير قابل للتطبيق بسرعة كبيرة كون أنّ القاعدة السفلية ستتطلب مساحة واسعة من الأرض المتاحة.
أما بالنسبة للمباني التقليدية المصنوعة من القرميد والمورتار يمكننا زيادة سماكة الأساسات والجدران السفلية إذا ما أردنا بناء طوابق علوية جديدة وبعد أن تصل إلى ارتفاع محدد ستصبح هذه العملية غير عملية, لكنّ السؤال يدور حول ما هي أهمية الارتفاع في البناء إذا خسرنا المساحة الموجودة في الطوابق السفلية؟
لكن في أواخر القرن التاسع عشر ظهرت تطورات وظروف ساعدت المهندسين على كسر هذا الحاجز.
دفعت المهندسين للتفكير بشكل جدّي في إيجاد حل لبناء إنشاءات ولمخاطر سقوط المباني التي يمكن العمل على إنشائها بشكل مرتفع.
والتقدم التقني الأساسي الذي جعل إمكانية بناء ناطحات السحاب واردة تمثل في تطور إنتاج الحديد والفولاذ, وذلك من خلال إنتاج القضبان الحديدة والصلبة التي منحت المهندسين مجموعة كاملة جديدة من البلوكات الإنشائية للعمل, كما قدم التطور التقني القضبان الحديدة ذات الوزن الخفيف التي تستطيع أن تدعم وزن أكبر بطريقة أفضل من الجدران القرميدية الصلبة التي كانت مستخدمة في عمليات إنشاء المباني القديمة, كما أن هذه القضبان قادرة على تقليص الحاجة إلى مساحة أكبر خلال الإنشاءات.
شبكة ضخمة من العوارض:
التدعيم الذي تتلقاه ناطحات السحاب يكمن في الهيكل الفولاذي. فالقضبان المعدنية تعمل على تثبيت المبنى من كلا الجانبين, كما يتم وصل القضبان العمودية بالقضبان الأفقية في كل طابق من المبنى, وفي العديد من المباني تتواجد القضبان القطرية داخل العوارض للحصول على قدرة تدعيم إنشائية أكبر, وعن طريق هذه الشبكة ذات الأبعاد الثلاثية يتم نقل ثقل المبنى إلى القضبان العمودية, ومن ثم تقم هذه الأعمدة بنقل الثقل إلى قاعدة البناء التي تقم بدورها بنشر هذه القوة الضاغطة على التركيبات الثانوية تحت المبنى.
وعندما نقوم بإنشاء ناطحة سحابٍ مثالية يتوجب علينا وضع القضبان العمودية على الأرضية المنتشرة حيث تلقي بوزنها على طبقة القالب الحديدي التي تتوضع على شبكة العوارض الأساسية. وهذه بدورها تتألف من مجموعة من الطبقات الفولاذية الأفقية مرتبة بشكل دوري على شكل طبقتين أو أكثر
ويتم وضع هذه الشبكة على طبقة سميكة من البيتون يتم صبها مباشرة على المادة الطينية الصلبة الموجودة كأرضية للبناء.
أما في كل المباني الثقيلة تتركز قاعدة الأرضية على الأرصفة البيتونية الضخمة التي تمتد بشكل كامل باتجاه الأسفل لتصل إلى أرض حجر الأساس.
وتعد الجدران الخارجية الستائرية إحدى أهم الميزات التي يمنحنا إياها الهيكل الفولاذي, وهي بحاجة إلى دعم وزنها, الأمر الذي سمح للمهندسين المعماريين ببناء ما يريدون بشكل عكسي بالكامل للجدران السميكة الموجودة في الإنشاءات التقليدية.
يذكر أنّه في العديد من ناطحات السحاب التي تمّ بناؤها في خمسينات وستينات القرن الماضي كانت الجدران الستائرية مبنية تقريباً بالكامل من الزجاج لمنح ساكنيها رؤية مدهشة لمدينتهم.
ولتكن ناطحات السحاب عملية أكثر أصبحت المصاعد العمودية جزءاً لا يتجزأ من تصميم ناطحات السحاب. من هنا كانت مسألة من أهم المسائل الواجب مراعاتها في أي تصميم ناطحة سحاب.
كما أنّ مسألة أمان المبنى تعتبر من أهم المسائل الواجب أخذها بعين الاعتبار, فناطحات السحاب الحالية لم تكن لتصبح بهذه الجودة بدون اكتشاف المواد المضادة للحرائق في الأبنية في القرن التاسع عشر, وقد تمّ تجهيز ناطحات السحاب بجهازٍ رشاش معقد قادرٌ على إطفاء معظم الحرائق قبل أن تنتشر على نطاق واسع, وذلك لحماية مئات الساكنين والعاملين في بناء يرتفع إلى آلاف الأقدام وبدون مخرج أمان.
مقاومة الرياح:
يتوجب على ناطحات السحاب أن تتعامل مع القوة الأفقية للرياح إضافة إلى مواجهة ضغط الجاذبية الأرضية. فمعظم ناطحات السحاب يمكن أن تتحرك بضعة أقدام كشجرة تهتز أمام الرياح بدون تعريض سلامة البناء إلى أي خطر, لكن المشكلة تكمن في شعور الناس الساكنين في هذا البناء بهذه الحركة الأفقية.
وهنا يجدر التنويه إلى أنّ طريقة تثبيت البناء ببساطة هي الطريقة الأساسية للسيطرة على التأرجح الأفقي. ففي كل عقدة تلتقي فيها العوارض مع القضبان العمودية سيقوم الإنشاء بربطها وتثبيتها من الأعلى إلى الأسفل لتكون ككلٍّ واحد مرن, كما سيتم تسليح منطقة المصاعد الموجودة في منتصف البناء بالجلمون الفولاذي القوي التي سيتم تثبيته بالقضبان العمودية, الشيء الذي يفسّر وجود أكثر من حشوة بيتونية في منتصف معظم المباني الحديثة, كما أنّ ذلك سيساهم في تحمّل هذه الإنشاءات لأضرار الهزات الأرضية, كونها تتحرك بشكل أساسي لاهتزازات الأرض الأفقية, وبهذا سنحول دون إجهاد الهيكل الفولاذي والتوائه.
لكن المشكلة تتلخص في شعور ساكني البناء بهذه الحركة, إضافة إلى أنّ العملية ستؤدي إلى إلحاق الضرر بالأجهزة والأثاث, الأمر الذي دفع العديد من الشركات للعمل على تطوير تقنية جديدة تقوم بصد الحركة الأفقية عن طريق إضعاف قوّة الاهتزازات, ولهذا تمّ استخدام أجهزة ترطيبية للرياح في بعض المباني, كما هو الحال في مركز سيتي كورب في مدينة نيويورك.
وخلال هذه العملية المعقّدة تقوم الأنظمة الزيتية الهيدروليكية بدفع 400 طن من البيتون إلى الخلف والأمام في الطوابق العلوية لنقل ثقل المبنى من جانبٍ إلى آخر. ولمعرفة كيف تقوم الرياح بتحريك المبنى ونقل الثقل من مكان إلى آخر, فقد تمّ استخدام نظام كمبيوتري معقّد يرصد هذه الحركة كما توجد أنظمة أُخرى تعمل على توزيع ثقل المبنى .
إقرأ أيضاً: تصميم وتنفيذ استوديو تلفزيوني
المهندسون والمصممون المعماريون يحملون في قلوبهم بشكلٍ دائم تحديات بناء إنشاءات أكثر ارتفاعاً, كما أنّ الشركات والمدن تنجذب بشكل دائم إلى مجد بناء الإنشاء الأعلى في العالم فيها. وكما هو معروف فإنّ برج تايبيه 101 هو البناء الأكثر ارتفاعاً, لكن التنافس لن يتوقف أبداً, حيث يوجد أكثر من 50 مشروع يمكن أن يحطم الرقم القياسي, كما يتم العمل على بعض ناطحات السحاب القديمة لتحطّم الرقم القياسي. وفقاً لبعض الخبراء الهندسيين يعد المال هو العائق الوحيد لذلك وليس التقنية, لأن المبني ذات الارتفاع الشاهق تتطلب مواد مدعمة متينة وعميقة وأرضيات صلبة غالية الثمن, إضافةً إلى احتياج الطواقم الإنشائية إلى رافعات متقنة ونظام أنبوبي لإيصال البيتون والمواد المدعمة إلى الطوابق العليا, أي ما يكلّف عشرات المليارات من الدولارات لإنشاء ناطحة سحاب واحدة.
لحل المشاكل اللوجستية التي تتعرض لها المصاعد في ناطحات السحاب في الطوابق العلوية من إحدى ناطحات السحاب التي تتألف من 200 طابق يمكن الوصول إليها بسهولة فإننا سنحتاج إلى مساحة كبيرة من المنطقة الوسطى من البناء, ولحل هذه المشكلة يمكن تنظيم المصاعد بحيث يتم تقسيمها بشكل يسمح لمصعد بالوصول إلى منتصف المبنى ويقوم بعد ذلك مصعد آخر بالوصول إلى القسم العلوي من البناء.
أمّا بالنسبة لتصور ما هو المطلوب في ناطحات السحاب في المرحلة القادمة, انقسم الخبراء إلى قسمين: قسم يرى أنّ البناء يتميز بالتقنيات المذهلة ليصل إلى ارتفاع الميل (1609 م- 5280 قدم), وقسم يرى أننا بحاجة إلى تطوير مواد أكثر قوّة وأكثر خفّة, بالإضافة إلى مصاعد أسرع وآلات مضعفة لتأرجح المباني قبل أنّ تصبح هذه المباني هشة وضعيفة.
لكن لا يجد المهندسين أي حاجز في وجه أحلامهم, كون أنّ التطور التقني المستقبلي قد يقود إلى مدن ممتلئة بناطحات السحاب كما يقول بعض الخبراء, بالإضافة إلى ظهور فكرة إسكان مليون شخص أو أكثر في بناءٍ واحد كأمر وارد الحدوث.